فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (41- 43):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة الذين يسألون محمداً الإيمان {أَنَّا نَأْتِي الأرض} نقصدها {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} يفتحها لمحمّد صلى الله عليه وسلم أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم فلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها، وبنحو ذلك قال أهل التأويل. روى صالح بن عمرو عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: ظهور المسلمين على المشركين.
وروى وكيع عن سلمة بن سبط عن الضحاك قال: ما تغلب عليه محمد صلى الله عليه وسلم من أرض العدو.
جبير عن الضحاك قال: أو لم ير أهل مكة إنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى.
وروى إسحاق بن إبراهيم السلمي عن مقاتل بن سليمان قال: الأرض مكة وننقصها من أطرافها غلبة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليها وانتقاصهم وازدياد المسلمين. فكيف لا يعتبرون وقال قوم: معناه أو لم يروا إلى الأرض ننقصها أفلا تخافون إن جعل بهم بأرضهم مثل ذلك فيهلكهم ويخرب أرضهم.
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: خراب الأرض وقبض أهلها.
يزيد الخوي عن عكرمة قال: يعني قبض الناس.
وقال: لو نقصت الأرض لصارت مثل هذه وعقد بيده سويتين.
عثمان بن السنّاج عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت أهل الأرض.
طلحة بن أبي طلحة القناد عن الشعبي: قبض الأنفس والثمرات.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نقصان أهلها وتركها.
عثمان بن عطاء عن أبيه: قال ذهاب علمائها وفقهائها.
قال الثعلبي: أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد بن محمد بن إدريس البسطامي حدثنا سعد بن سعيد حدثنا أبي حدثنا أبو حفص عن محمد بن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا العلم قبل أن يذهب».
قلنا: وكيف يذهب العلم والقرآن بين أظهرنا قد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نقرأه ونقرئه أولادنا فأنصت ثم قال هل ظلت اليهود والنصارى الا والتوراة بين أظهرهم ذهاب العلم ذهاب العلماء.
وحدثنا الأُستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظاً في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين.
قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا [.........] السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال: يا أهل حمص مالي أرى أنّ علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء.
وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال: قال علي رضي الله عنه: إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كفٌ لم تعد.
حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال: قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري. أخبرنا محمد بن الصلت. حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال: قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم السلام.
{والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لا راد لحكمه، والمعقب في كلام العرب الذي يكرّ على الشيء ويتبعه.
قال لبيد:
حتى تهجر في الرواح وهاجه ** طلب المعقب حقه المظلوم

{وَهُوَ سَرِيعُ الحساب * وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مشركي مكة {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحداً إلاّ من أراد الله ضره، وقيل: معناه له جزاء إليكم.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار} سيعلم: قرأ ابن كثير وأبو عمر: الكافر على الواحد، والباقون على الجمع.
{لِمَنْ عُقْبَى الدار} عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إني رسوله إليكم، {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أيضاً يشهدون على ذلك. هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقرأ الحسين وسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ} بكسر الميم والدال. علم الكتاب مبني على الفعل المجهول.
وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال: قلت لسعيد بن جبير {وَمِنْ عِندِهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية.
وكان سعيد يقرأها {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}، ودليل هذه القراءة قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] وقوله: {الرحمن * عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1-2].
وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها ومن عنده علم الكتاب.
وبه عن السمري حدثنا أبو توبه عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال: وذكر الله أشدّ فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين} [العنكبوت: 49] الآية.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص. أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال: كنت جالساً مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالساً في ناحية فقلت لأبي جعفر: زعموا أنّ الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيه عن السبيعي: حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب.
أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنفية {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: هو علي بن أبي طالب.

.سورة إبراهيم:

كلها مكية غير آيتين وهما قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا}. إلى قوله: {فإن مصيركم إلى النار} نزلتا في قتلى بدر وأُسرائهم، مكية وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في اثنتين وخمسون آية.
أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إبراهيم والحجر أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}
{الر} ابتدأ {كِتَابٌ} خبره وإن قلت هذا كتاب {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يا محمد يعني القرآن {لِتُخْرِجَ الناس} لتدعوهم إليه {مِنَ الظلمات} الضلالة والجهالة {إِلَى النور} العلم والإيمان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد * الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}.
قرأ أهل المدينة والشام: الله، برفع الهاء على الاستئناف وخبره: {الذي} وقرأ الآخرون: بالخفض نعتاً للعزيز الحميد.
وقال أبو عمر: بالخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. كقول القائل مررت بالظريف عبد الله.
لو كنت ذانبل وذا شريب ** ما خفت شدات الخبيث الذيب

وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الحميد رفع قوله: {الله} وإذا وصل خفض على النعت {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الذين يَسْتَحِبُّونَ} يختارون الحياة الدنيا {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} ويضربون ويميلون الناس عن دين الله {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} ويطلبونها زيغاً وقيلا، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائماً.
والعوج بفتح العين في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغتهم ليفهموا لبنية، بيانه قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} بالدعوة {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله}.
قال ابن عباس وأُبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله.
قال مقاتل: بوقائع الله في الأُمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنها كانت معلومة عندهم.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ}.
قال الفراء: العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله ويذبحون ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» أي دعوا شبانهم أحياء {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.
{لَئِن شَكَرْتُمْ} نعمتي وآمنتم وأطعتم {لأَزِيدَنَّكُمْ} في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.
{وَلَئِن كَفَرْتُمْ} نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.
{إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إلى قوله: {فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.

.تفسير الآيات (9- 17):

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.
وكان ابن مسعود يقرأها: {وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} ثم يقول كذب النسابون {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ}.
قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظاً.
قال ابن زيد وقرأ: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].
ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.
الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أُمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد ردّ يده في فيه.
قال القيسي: إنا لم نسمع واحداً من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفاً وغيظاً.
كقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسود

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر.
وقال الهذلي:
قد أفنى أنامله أزمة ** فأضحى يعض على الوظيفا

الوظيف يعني الذراع والساق، واختار النحاس هذا القول؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].
وأنشد:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ** ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي ** عضت من الوجد بأطراف اليد

قال الكلبي: يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم؛ إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.
مقاتل: فردوا أيديهم على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك {وقالوا} يعني الأُمم للرسل، {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موجب الريبة موقع للتهمة {قَالَتْ رُسُلُهُمْ} إلى قوله تعالى: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} من تعجله {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب {قالوا} الرسل {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم {أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} [سبأ: 21] فصحة قوله: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [يونس: 68] بهذا وقوله: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 10].
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة والحكمة إلى قوله: {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، {وَلَنَصْبِرَنَّ} اللام للقسم مجازه لنصبرن {على مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} إلى قوله تعالى: {فِي مِلَّتِنَا} يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد هلاكهم {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك.
قال الله {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].
وقال الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي أي عذابي.
{وَخَافَ وَعِيدِ * واستفتحوا} واستنصروا الله عليها.
قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأُمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا، نظيره قوله تعالى: {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [العنكبوت: 29] وقالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
مجاهد: معاند للحق ويجانبه.
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق.
ابن عباس: المعرض.
وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلاّ الله.
مقاتل: المستكبر.
ابن كيسان: الشامخ بالحق.
ابن زيد: المخالف للحق.
والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه.
وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.
قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا ** إني كبير لا أطيق العندا

{مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} يعني أمامه وقدامه كما يقال: إن الموت من ورائك. قال الله {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79].
قال الشاعر:
أتوعدني وراء بني رياح ** كذبت لتقصرن يداك دوني

أي قدامهم.
أبو عبيدة: من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأيتك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه.
وقال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ** يكون وراءه فرج قريب

وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات؛ لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك.
مقاتل: من ورائه جهنم يعني بعده.
وكان أُستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....]، {ويسقى مِن مَّآءٍ} ثم بين ذلك لنا فقال: {صديد} وهو القيح والدم.
قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك مايسيل من ابن الزنا يسقى الكافر {يَتَجَرَّعُهُ} يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أي لم يرها.
قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبّونه.
وروى أبو أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فأذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره يقول الله {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] وقال: {يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} [الكهف: 29] {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ} من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.
وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة في جسده.
الضحاك: حتى من إبهام رجله.
الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتاً.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ولا يخرج نفسه فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، نظيره قوله: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} شديد.